ماذا عن التفكير؟
هذا هو الجزء الثالث من مقالة “هل أنت سعيد في حياتك؟”
يمكن قراءة الجزء الثاني من خلال الرابط : مقالة السعادة في الحياة 2
في المقالة السابقة تحدثنا أكثر عن الإنتقال بين مراكز الوعي من الماضي والمستقبل إلى الحاضر ، ومن العقل إلى الجسد والتأثير الذي يصيب نوعية الحواس و درجة التفكير كنتاج لذلك ، كما تحدثنا قليلاً عن عملية التفكير ذاتها وكيف يمكن الدخول إلى الأن من خلال الوعي بالمحيط والجسد.
بداية وكما ذكرنا سابقاً عندما تريد الدخول إلى الحاضر أو العودة إلى نفسك الحاضرة والإنفصال عن النفس المفكرة ، فأنت تقوم أولاً بالوعي بالمكان المحيط بك ، ثم الوعي بجسدك ، ثم البقاء هناك حتى تقل عملية التفكير تدريجياً وتختفي ، لأنه لا يمكن لك الحضور والإنتباه والتفكير في نفس الوقت ، هذا محال ، لذا يسمى ذلك العلم في الصوفية “المراقبة” ، المراقبة حقاً ليست سلوك تحاول فرضه على نفسك مجبراً بل فقط البقاء مراقباً لما يحصل بالفعل ، ويشمل ذلك المراقبة لعملية التفكير ذاتها خلال عملها ، كونك تتوقف عن الإنخراط في عملية التفكير وتبقى مجرد مراقب لها فإن ذلك يكون كافياً لإيقاف منابعها ، بدون إنخراطك في عملية التفكير لا يمكن لهذه العملية أن تستمر طويلاً ، رجاءً لا تصدق ذلك أو تنكره ، فقط جربه.
في البداية أغمض عينيك واسأل نفسك “من أنا؟” ، لن تجد إجابة ، فقط صمت مطبق ، قد تكون الأنا في أعلى درجاتها تأبى حتى الرد ، السؤال أقل قدراً من أن يتم الإجابة عليه ، وقد يبدو سؤالاً سخيفاً ، يبدو للأنا وكأنها محاولة فاشلة لإثارة إنتباهها أو لكي تبدو جدياً. ولكن إستمر بالسؤال ولا تتوقع إجابة محددة ، لا تنتظر شيء ما ، بعد بضعة دقائق من الإستماع المتكرر للسؤال ، قد تسمع صوت داخلي يقول في نفسك ” هذا لا يعمل ” ، “أنا أهدر وقتي ” ، “لا يوجد صوت … لايوجد شيء هنا” ، ” لابد أنني أقوم بالأمر بالطريقة الخاطئة ” ، لديك ذكل يبدأ في الحصول في عقلك في تلك اللحظة وأنت تعتقد بأنك لا تستمع إلى “أي شيء” ، عندما يأتي الإدراك بذلك ، يأتي الإدراك الأول بعملية التفكير ، تأخذ الأمور مجرى مختلف عندها ، ما (تسمعه – تراه ) يبدأ في الإبتعاد أكثر عنك ، ويصبح لديك قدرة أقل على إستشراف ما هو قادم ، إستمر في التركيز في السؤال وعدم الإنجراف إلى ما تسمع أو تراه ، قد تبدأ في رؤية ذكريات قديمة ، قد تسمع صوت يناديك بإسمك ، تجاهل كل شيء وإستمر بالسؤال ، وإستمر كمراقب لا كحكم ، لا تحاول أن تحكم على ما تسمع أو أو تراه ، من خلال ذلك ، من خلال جميع ما تصادفه هناك ، يأتي من أعماق كل ذلك إدراك عظيم ، “من أنت؟” ليس إسماً ، و ليس صوراً وذكريات ، أنت أيضاً لست الصوت الداخلي الذي تسمعه عند التفكير لأنه إذا كنت تسمعه فلا يمكن أن يكون أنت في نفس الوقت ، هناك من عليه الحديث وهناك من عليه الإستماع. لذا فأنت لست عملية التفكير .
الإدراك يأتي هنا ، بأنك لست كل هذه الأشياء ولكن أنت مصدرها ، أنت الحيز الذي توجد فيه الأفكار والصور والصوت والذكريات وغيهرا ، وهذا الإدراك لا يأتي على شكل أو هيئة أو صورة أو صوت أو فكرة ، بل كشعور ، عندها سوف تملىء السعادة قلبك.
السبب في هذه السعادة يكمن في إدراكك لوهم المعاناة التي كنت تعيشها.على سبيل المثال ، قد تكون غارقاً في أعمالك لتصادف فجأة صديق قديم تلتقيه بعد مدة طويلة من الزمن ، تراه يرتدي ملابس أنيقة ، لديه سيارة فارهة ،أعمال مزدهرة ، يتم عند تلك اللحظة استفزاز للأنا لديك لتشعر فجأة بالسوء والمعاناة ، تقول في نفسك “إنه أفضل مني ” “أنا بالتأكيد أضيع حياتي” “ما الذي أفعله؟؟” …إلخ
فجأة السعادة (إن كان موجودة في الأساس) تتبخر فجأة من حياتك ويتم إستبدالها بالتعاسة والمعاناة ، بالطبع أنت تحكم على ما تراه فقط وليس على ما لا تراه. صديقك أيضاً قد يكون تماماً في وضعك الحالي ، قد ينظر إلى مكانة أو منصب أو عمل أو مال أكثر ويحلم بالوصول إلى تلك النقطة ما يسبب له التعاسة والمعاناة أيضاً في الحاضر . لذا مففتاح السعادة ليس في كمية ما تملكه ، فقد تملك العالم بأكمله وتشعر بأنك لاتزال فقيراً وتريد المزيد أو الأسوء وقد تشعر بأن فقرك يزيد ، لأنه كلما إمتلكت أكثر كلما قل ما يمكن أن تملكه لاحقاً ، ولأنه في الحقيقة يمكن إمتلاك كل شيء ولكن لا يمكن للأنا التوقف عن النظر إلى المستقبل وطلب المزيد.
لذا قال السيد المسيح ” ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه “
أن تكون سعيداً ليست طريقة جديدة للتفكير ، بل هي مجرد إدراك .
مشكلة أخرى قد تصعد في هذه الحالة ، ماذا عن التفكير؟ ألا نحتاج التفكير في حياتنا اليومية؟ ألا نحتاج التفكير لأجل البقاء ولحل المشاكل حولنا؟ ألا نحتاج إلى التفكير لصناعة الأدوات والأجهزة التي تخدم تطور البشرية؟ أليس التفكير أساسي لعمل الفلسفة والعلم؟ ، بإختصار أليس التفكير مهم جداً للإنجاز في العالم الخارجي؟.
الجواب هو نعم ، التفكير ضروري جداً للقدرة على البقاء والتطور ، بدون التفكير كنا على الأرجح سنؤكل من قبل الحيوانات الأقوى والأكبر منا ، أو نهلك بفعل قوى الطبيعة ، ونعم التفكير ضروري لإنتاج الفلسفة والعلم ، ولكن من المهم أن ندرك أنه ليس كل التفكير الذي في عقولنا مفيد ، وأيضاً التفكير هو المسؤول عن خطف السعادة التي نستحقها بالوجود ، إذا كنت تفكر كثيراً خاصة التفكير الغير نافع كالتفكير بالهموم والأحزان فعلى الأرجح ستفوت الكثير من السعادة حياتك كما يقول الشاعر.
أيّهذا الشّاكي وما بك داء كيف تغدو اذا غدوت عليلا؟
انّ شرّ الجناة في الأرض نفس تتوقّى، قبل الرّحيل ، الرّحيلا
وترى الشّوك في الورود ، وتعمى أن ترى فوقها النّدى إكليلا
إن السبب في التعاسة ليس كون التعاسة جزء من العالم حولك ، العالم فقط موجود ،
إذا كنت غير قادر على الحضور ورؤية الجمال الموجود أمامك ، فأنت على الأرجح لن تنجز الكثير في العالم الخارجي وستفسد الكثير أيضاً في العالم الداخلي . ليس مطلوباً منك التوقف عن التفكير والبناء في العالم الخارجي ، ولكن المطلوب هو أن لا تنسى – من خلال عملية التفكير – الطبيعة الجوهرية للإنسان قبل ظهور عملية التفكير ذاتها ، وهي الحياة والحضور والحق في السعادة.
عندما تصبح قادراً وممارساً خبيراً لفن الحضور ، فأنت تملك هذه المرساة التي تعيدك الأشياء الجوهرية حقاً في حياتك.
الحياة في ظل الحضور لا تعني إختفاء الألم ، ولا تعني غياب الحزن ، فقط تعني بأنك تستطيع العيش بكامل إمكانياتك في كل لحظة ، تعني بأن ما يحصل في الماضي وما تتوقع حصوله في المستقبل لن يتمكن من إفساد حاضرك الحالي.
أفضل الأمثلة على الحضور هم الأطفال حديثي الولادة ، هم منسجمون للغاية مع ما يحصل أمامهم وفي الحاضر ، قد تكون رأيت طفلاً يبكي في لحظة ما ثم يبتسم ويضحك فجأة ، قد يستطيع الأطفال بعد أن يكبروا القيام بذلك لهدف ما ، ولكن الأطفال حديثي الولادة هم فعلاً كائنات حاضرة تماماً. لا يمكن لطفل حديث الولادة أن يفكر كثيراً بما حصل البارحة أو قبل إسبوع من الزمن أو قبل شهر أو سنة ، لا يوجد مساحة لذلك ، كما لا يمكن لهذا الأمر أن يفسد عليه قدرته على الحياة الأن وبكامل قدراته. طبعاً الأطفال لا يملكون القدرة على إختيار هذه الطبيعة ، هذا ما هو متاح لهم فقط ، عندما يكبرون تزداد مساحة التفكير وتبدأ تدريجياً بالإستيلاء على الحاضر واللحظة ، ثم ينتهى الأمر بعد سنوات طويلة مسافرين عبر الزمن إلى كل نقطة ، سوى إلى الحاضر.
جميعاً يملك هذا الطفل في داخله ، ويملك تلك الطبيعة ، لذا القدرة على العيش في الحاضر والسعادة هي جزء جوهري من مكوناتك كإنسان وليس شيء يمكن أن تحصل عليه من الخارج.
محمد العمصي